الخميس، 30 سبتمبر 2010

 قصة قصيرة
رمضان كريم
بقلم
محمد عبد الله الهادي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان الحاج المجلي مغمورًا بالدهشة، ومشاعر متباينة تسيطر علي أحاسيسه، ماذا بوسعه أن يقول لهذا الرجل الجالس أمامه؟ لولا اليوم الرمضاني، وثقل الصوم علي شيخوخته ومرضه، لخرج من حجرته للحارة مناديًا بأعلى صوته كل جيرانه، صائحا فيهم:
"يا كابتن رمزي.. يا معلم عويضة.. يا بو كريم.. تعالوا وشوفوا يا عالم.. اسمعوا الرجل ده.. يا تصدقوا يا متصدقوش.. وأنتم أحرار.. أنا نفسي مش مصدق وحيران.."
أيام الشهر الكريم مضت تباعًا، ومصاريفه تفوق مصاريف عدة أشهر غيره.
قبل أن يطرق هذا الرجل بابه كان قد اطمأن علي طعام إفطاره: طبق المكرونة علي البوتاجاز وشرائح بطاطس محمرة وخضروات السلاطة والعرقسوس في الثلاجة. لا يقلقه طعام يومه فهو ومنذ شبابه واغترابه لفترات بعيدًا عن أسرته تعلم كيف يدبر نفسه، ما يقلقه حقًا اقتراب العيد وموسم زياراته للبنات وكيفية تدبير نفقاتها، في الماضي كانت زوجته فردوس تتكفل بالأمر وتعد له قبل مجيء الشهر بشهور فلا يلقي للمواسم بالا، ولا يكاد يحس بقدومها، أو وطأة تكاليفها، في مرضها الأخير اقترح عليها أن يعطيهن نقودًا بدلا من الزيارة لكنها رفضت وأوصته ألاَّ يقطع العادة، منذ رحيلها توجَب عليه أن يجهز لكل واحدة من الثلاث زيارتها: علبة كحك وعلبة بسكويت وعلبة حلوى وفاكهة الموسم وعيدية للبنت وهدايا للأحفاد، كان الأمر هينًا في سنوات مضت، لكنها الأسعار التي طارت للسماء جعلته شاقًا، يزور كل واحدة بنفسه حاملا "موسمها" في "توك توك" مخصوص، كأنما يؤدي شعيرة مقدسة يخشى عقاب الله علي نسيانها أو تأخيرها، رغم إنهن في كل مرة يلححن عليه أن يكف ولا يتعب نفسه، يكفيهن حسَه في الدنيا، يقلن إن الواجب يحتم عليهن أن يذهبن هن إليه في شيخوخته ومرضه ووحدته، بل ويلححن عليه أن يقضي الشهر الكريم معهن، ويوزع أيامه بينهن، لكنه كان يأبى، يعرف أن البني آدم ثقيل حتى علي نفسه، لا يأخذ كلامهن علي محمل الجد، عندما يطرق أبوابهن يتأكد إنهن كن ينتظرنه، يرى رءوسهن المرفوعة بإباء أمام أزواجهن، والسعادة تطفر من أعينهن، يفتح ذراعيه علي اتساعها، يندفع الأحفاد بلهفة لأحضانه والتعلق بثوب بابا جدو المجلي، فتغمره بهجة لا حدود لها، يؤكد لهن وهو يلتقط أنفاسه المبعثرة أن عادته لن تنقطع أبدًا، طالما يمتلك قدمين جيدتين يسعى بهما علي وجه الأرض، إلا إذا أراد الله له غير ذلك.
يقاطعنه بجذع حقيقي:
ـ "بعد الشر عنك يا حاج.. العمر الطويل لك.. وربنا ما يقطع لك عادة."
غلاء الأسعار وفاتورة علاج القلب والضغط ومتطلبات المأكل والملبس.. وغيرها من الضروريات، أصابت المعاش بالضربة القاضية، فتضاءل بين كفيه عامًا بعد آخر وسقط أرضًا بعد أيام قلائل من الشهر الكريم، الجنيهات المتبقية لا تكفي حاجات زيارة بنت واحدة من الثلاث بنات، كان مأزومًا من فكرة أن تنقطع العادة وهو حي يرزق؛ فأل سيء يعني انتهاء دوره في الحياة، تمنَّى ألاَ يحدث وفي صدره نفس يتردد، ومكروبًا أيضًا من فكرة أن يلجأ للاقتراض، ولمن يلجأ؟ جاره الكابتن رمزي علي المعاش مثله والحال من بعضه، الحاج عويضة صاحب وكالة الفاكهة علي الناصية هو الثري الوحيد بالحارة، لكنه بخيل، ميت علي الدنيا، ليس له صاحب إلاَ القرش الذي يدخل جيبه.
كان مهمومًا عندما سمع صوت العربة التي توقفت أمام بابه، والرجل السمين الذي ترجل بصعوبة وطرق بابه بعد صلاة العصر وسأله وهو ينهج:
ـ "مش حضرتك الحاج المجلي؟"
أجابه:
ـ "أيوه أنا.. تفضل يا بني"
سلَّم ودخل ولملم جلبابه السابغ وجلس علي أول مقعد. قال له الحاج مُرحبًا ومُعتذرًا:
ـ "رمضان كريم"
جفف الرجل وجهه بمنديل ورقي، وهو يتجول بعينين متشككتين في أثاث الحجرة الفقير، وصور الحاج في مراحل شبابه المعلقة علي الحوائط المغبرة بإهمال في عتمة آخر النهار، يقارن بتشكك بينها وبين الرجل المسن الذي أمامه.. ورد:
ـ "الله أكرم"
مد يده في جيب جلبابه العلوي، وأخرج ورقة مطوية فردها أمام عينيه، ومر علي سطورها بسرعة، ونظر في عيني الحاج خلف النظارة نظرة فاحصة للحظة ما لبثت أن عادت للورقة، وسأل مرة أخرى يتأكد:
ـ " حضرتك الحاج المجلي علي المجلي"
خمن الحاج، وعرف ما يدور برأس الرجل الغريب، فأشار لصورته الشبابية بالشعر الغزير المفروق والمرجّل علي جانبي الرأس، ثم مسح رأسه الصلعاء بكفِّه، وأقسم:
ـ "والله، ما لك علي حلفان.. هو أنا"
فوجئ الرجل بفراسته وابتسم محرجًا وعقب قائلا:
ـ "مصدقك والله يا حاج.. وعارف إن حضرتك كنت ساكن جنب وابور النور سنة 79.. صح؟"
ـ "وابور النور؟!"
ردد الحاج اسم المكان، كأنه يستخلصه بصعوبة من بئر مظلم في أعماق ذاكرته.
وعاد الرجل الغريب لأسئلته المتشككة. وتزاحمت برأس الحاج أسئلة أخرى:
من هذا الغريب الذي يعود به لأكثر من ثلاثين عامًا خلت؟ لقد انتقل من بيت وابور النور هذا منذ زمن بعيد لبيوت أخرى كثيرة، أربعة أو خمسة بيوت ما بين المنشية وكفر الحوت وفاقوس البلد.. داخل المدينة وعلي حدودها، بيت وابور النور هو البيت الذي شاهد ليلة دخلته بفردوس، ومولد ابنته البكرية أحلام، وسفره للعمل بالسعودية.
عندما رجع من رحلة عمله القصيرة هناك، وعرف بحادث سرقة بيته، قالت له فردوس مخفية رغبتها في ترك الحي: "نبني بيت قبل ما تخلص الفلوس يا حاج"، قال لها: "المالك له بيت واحد.. أما المستأجر له كل بيوت البلد"، وبحث عن بيت آخر.
مدخراته من سنوات الغربة أنفقها فيما بعد علي تعليم البنات الثلاث، وتجهيزهن عندما كبرن وتزوجن واحدة تلو الأخرى، فلم تتعرض زيجة منهن لمشكلة مادية.
عندما رحلت الحاجة فردوس بعد مرض قصير في البيت الأخير، لم يستطع البقاء فيه شهرًا كاملا، وطيفها يعايشه كل لحظة في كل ركن فيثقله بحزن الفراق، قرر تركه، واستأنف حياته بعد بحث بهذه الحجرة منذ خمسة أعوام، المهم أن منافعها تكفي حاجياته بمفرده.. 
خرج الحاج من شروده، وتأمل الرجل القلق الذي يفيض بجسمه الثقيل علي جانبي الكرسي، وبدأ الفأر يلعب في عبِّه؛ إنه يذكره بماض عفا عليه الزمن، هل هو جار قديم سقط من الذاكرة أم أنه أحد أبناء الحي القديم يقصده في حاجة؟ سأله:
ـ "لا مؤاخذه يا حضرة.. العتب ع النظر.. من حضرتك؟ وتسأل عليَ ليه؟"
عاد الرجل بكل ثقله للخلف فطقطقت مفاصل الكرسي القديم، وقال وهو يرسم ابتسامة علي وجهه:
ـ "واسطة خير"
فبادله الحاج الابتسام وقال له:
ـ "حضرتك اسمك واسطة خير؟"
بدا الرجل مهمومًا فلم يستجيب للدعابة، وضع الورقة أمامه، ومد يده في الجيب الجانبي المنتفخ، أخرج رزمة من الأوراق المالية وبان علي ملامحه الجد، وفرد كفه الأخرى برجاء مؤمل وهو يقول:
ـ "أرجوك.. وحق صيامك في الشهر المفترج.. لا تسألني عن اسمي ولا اسم اللي باعتني لك.. أنا زي ما قلت لك واسطة خير وبس"
بسط الحاج المجلي كفيه أمامه باستسلام قائلا:
ـ "مرحبا بك يا واسطة الخير وأنا تحت أمرك.. بس أفهم الحكاية"
وبإصبع الإبهام ليد مدربة، عـد الرجل عشر ورقات مالية من فئة المائة جنيه في ثانية وبسطها أمامه:
ـ "بص يا سيدي.. الألف جنيه دي دين مستحق لك علي الرجل اللي باعتني لك.. هي دي كل الحكاية"
وقبل أن يسأل الحاج": أي دين وأي مدين يا حضرة؟ وألف جنيه مرة واحدة!، منذ متى.. وأين؟ أردف الرجل يقطع عليه حبل أفكاره:
ـ "دول ثمن حاجات أخدهم من بيتك.. بيت وابور النور سنة 79 لما مراتك كانت بتزور أهلها في مصر وأنت كنت برََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََّه في السعودية"
نشطت ذاكرة الحاج في لحظة، وشعر بجفاف حلقه، لولا الصيام لفتح الثلاجة وتجرع دورق العرقسوس المثلج كله جرعة واحدة، انتصبت فردوس أمامه بعافية الصبا والوجه الأبيض المستدير الباسم، أخبرته بأنها عندما رجعت للبيت وجدت شباك المطبخ مكسورًا، واللص سرق الأشياء التي جاء بها من السعودية في آخر زيارة. تذكر أن الغضب تملكه، وهي تطلب منه ألاّ يزعل نفسه، وتمنى وقتها أن يكون بمصر وقت الحادث ليبحث عن اللص بنفسه ويقتله، إنها أشياء غالية لبيته وهدايا لأسرته جاهد في جمعها عامًا كاملا، لكنه تمالك نفسه أمام ابتسامتها العذبة وإلحاحها، فقال مهونًا: "العوض علي الله.. فداكِ وفدا أحلام" ردت عليه بارتياح:       " طول العمر لك.. تعيش وتجيب"..
كاد أن يصرخ في وجه الغريب سائلا: " أنت الحرامي ولاّ اللي بعتك هو اللي سرقني من ثلاثين سنة؟.. انطق.. اعترف.. ولا ألم عليك ناس الحارة وناخدك للبوليس"
لكن الرجل لم يدع له فرصة الاسترسال مع نفسه، أو جماع شتات أفكاره، فقد لاحقه بالإجابة قبل أن يصرخ أو يسأل:
ـ "اللي باعتني لك مريض بالسرطان.. كفاك الله شر المرض.. شهور أو أسابيع الله أعلم.. ويقابل وجه الكريم.. عاوز يخرج من الدنيا وهو نظيف.. يسدد ما عليه من ديون لك ولناس زيك ظلمهم أيام طيشه وجهله.. وطلبه الوحيد إنك تأخذ فلوسك.. لنفسك إن رضيت أو تتبرع بها بمعرفتك إن رفضت.. أنت حر.. المهم  تسامحه وتدعو له بالشفا والرحمة من عذاب المرض"
كان الرجل يضغط علي الكلمات بين شفتيه محملا إيَاها أكبر قدر من الرجاء والاستجداء والاستعطاف.
خيم الصمت للحظات علي جو الحجرة، وعينا الرجل الغريب معلقتان بشفتي الحاج، كمن ينتظر حكمًا نهائيًا لا يقبل نقضًا ولا إبرامًا، إما أن يترك النقود ويظفر بالعفو والسماح، أو أن يعود بها خالي الوفاض.
أخيرا نجحت خطته، لقد انهارت ثورة الحاج أمام فداحة مرض المريض، وترقرقت في عينه دمعة، وتحول في لحظة للنقيض وهو يحاور نفسه:
كم تساوي هذه اللحظة من عمر زمنه في هذه الدنيا العجيبة؟ ألف جنيه.. مليون.. تريليون.. إنه حقا لا يعرف.. ماذا بوسعه أن يقول لهذا الرجل الجالس أمامه يرجوه ويستعطفه؟
فقال له بصوت خفيض:
ـ "من هو يا بني الرجل المريض وأنا مستعد أزوره وأدعو له"
تهلل الوجه السمين للرجل وانتفى شحوبه، عاد إليه احمراره وقد أحس بالظفر وهو يردد:
ـ "أصيل يا حاج.. أصيل والله.. بس أنا قلت لك لا تسألني عن نفسي ولا عن اللي باعتني.. دي أمانة وأنا واسطة خير"
رد الحاج المجلي مبتسما:
"ماشي يا واسطة الخير"
صمت قليلا، عاد بذاكرته لثلاثين عاما خلتْ، حاول تذكُّر المسروقات التي سُرقت، ماذا تعني قيمتها الآن له بعد كل هذه السنوات؟: راديو ريكوردر ثلاثة موجة أكاي، خلاط مولينكس أصلي، سشوار للشعر وأحذية باكستاني وملابس للبنت، أسورة ذهبية وخاتم وحلق وأشياء أخرى كثيرة تخص فردوس لم تسعفه بها ذاكرته.
لكنه لم ينس أنها الحادثة التي اضطرته للانتقال لبيت آخر في منطقة أكثر أمانًا.
تنبه علي كف الرجل السمينة التي ما زالت ممدودة أمامه بالألف جنيه، فأزاحها بكفّه قائلا:
ـ "رجع له فلوسه يا حضرة، هو أحوج مني لها في ظروفه، وأنا مسامحه وربنا يسامح الكل"
مدَّ الرجل كفه مرة أخرى بإصرار وقال:
ـ " كتر خيرك يا حاج.. هو مش محتاج.. ربنا تاب عليه من زمان.. وفتح عليه من أوسع الأبواب.. تجارة كبيرة وثلاث عمارات وأسرة وأولاد.. هو مش محتاج منك في محنته ومن ناس زيك لسه ح أزورهم.. تقبلوا حقكم وتسامحوه"
هـزّ الحاج المجلي رأسه من أعلى لأسفل عدة مرات علامة الفهم وإشارة الموافقة.
خيم الصمت مرة أخرى للحظات، كان الحاج شاردًا، انتهزها الرجل فرصة، ترك النقود علي المنضدة، ونهض حاملا جسده بصعوبة، ومدَّ كفه السمينة متناولا كف الحاج وهــَزها عدة هزات بامتنان، واستدار مغادرًا يركب عربته وهو يردد:
ـ "كل سنة وأنت طيب.. رمضان كريم"
خيم الصمت علي الحجرة للحظات أخرى، الحاج يستعيد الموقف الذي بوغت به محاولا استيعابه، يكاد لا يصدق، تذكر البنات وهن ينتظرنه والأحفاد وموسم العيد والعيدية والهدايا، قبض علي النقود التي هبطت عليه فجأة، كأن الشهر الكريم يودعه بفيض من كرمه، "لا منَّة ولا ذلَّة يا حاج عويضة.. إنها فلوسي ومالي الحلال رجع لي بعد ثلاثين سنة"، ولولا اليوم الرمضاني وثقل الصيام والمرض، لخرج من باب حجرته ينادي جيرانه أن تعالوا يا عالم وشوفوا.. يا تصدقوا يا متصدقوش..
"الله أكبر.. الله أكبر"
في لحظة واحدة، انطلق أذان المغرب مفجرًا صمت اللحظة من عشرات المساجد وآلاف التليفزيونات والراديوهات المفتوحة.
وانطلقت مئات الطلقات المتباينة من بنادق الأطفال وصواريخهم وألعابهم مقلدين مدفع الإفطار بكل أرجاء المدينة.
المدينة كلها فرحة من وابور النور لفاقوس البلد.
انتابه إحساس عميق لا يدانيه أدنى شك بأن مدينته كلها تحتفي به في هذه اللحظة، تهلل له وتبارك.
نهض، فتح باب الثلاجة، أخرج دورق العرقسوس:
"اللهم لك صمت.. وعلي رزقك أفطرت"
تناول جرعة باردة استطعم حلاوتها اللاذعة، جرح صيامه وأطفأ بها ظمأه، ثم اتجه للبوتاجاز يجهز وجبة إفطاره، ويتناول طعامه بنفس مفتوحة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 مجلة القصة أغسطس 2010
صحيفة الجمهورية 2 ، 9 / 9 / 2010


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق