الجمعة، 22 أكتوبر 2010

الشاطر حسن وست الحسن والجمال.. إصدار جديد للأطفال


 
 
عن الهيئة المصرية للكتاب صدرت رواية للنشئ بعنوان

(الشاطر حسن وست الحسن والجمال )

للكاتب محمد عبد الله الهادي

ورسوم عبد الرحمن بكر

الرواية تتخذ من القاهرة مكانا لها

وتدور أحداثها عن مقاومة المصريين للحملة الفرنسية

هذا هو العمل الثاني للكاتب في مجال الطفل ، فقد صدر له من قبل كتاب قصصي بعنوان

( الشغالة الذكية )

عن سلسلة قطر الندى عن الهيئة العامة لقصور الثقافة

الخميس، 7 أكتوبر 2010

حلقة ذكر علي شرف الفقيدة ـ إصدار جديد


عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ، سلسلة كتابات جديدة، صدرت المجموعة القصصية
حلقة ذكر علي شرف الفقيدة
المجموعة تضم 12 قصة في متوالية هي
حلقة ذكر علي شرف الفقيدة
البلغة
أبو الوجوه
أكان لابد يا عبد العال أن تبص لي
ابنان من رحم الليل
سيمفونية الغروب
الجائزة
في عز الليل
آخر الخط
هواء يرد الروح
القلعة
آجال

عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ، سلسلة كتابات جديدة، صدرت المجموعة القصصية
حلقة ذكر علي شرف الفقيدة
المجموعة تضم 12 قصة في متوالية هي
حلقة ذكر علي شرف الفقيدة
البلغة
أبو الوجوه
أكان لابد يا عبد العال أن تبص لي
ابنان من رحم الليل
سيمفونية الغروب
الجائزة
في عز الليل
آخر الخط
هواء يرد الروح
القلعة
آجال

الخميس، 30 سبتمبر 2010

 قصة قصيرة
رمضان كريم
بقلم
محمد عبد الله الهادي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان الحاج المجلي مغمورًا بالدهشة، ومشاعر متباينة تسيطر علي أحاسيسه، ماذا بوسعه أن يقول لهذا الرجل الجالس أمامه؟ لولا اليوم الرمضاني، وثقل الصوم علي شيخوخته ومرضه، لخرج من حجرته للحارة مناديًا بأعلى صوته كل جيرانه، صائحا فيهم:
"يا كابتن رمزي.. يا معلم عويضة.. يا بو كريم.. تعالوا وشوفوا يا عالم.. اسمعوا الرجل ده.. يا تصدقوا يا متصدقوش.. وأنتم أحرار.. أنا نفسي مش مصدق وحيران.."
أيام الشهر الكريم مضت تباعًا، ومصاريفه تفوق مصاريف عدة أشهر غيره.
قبل أن يطرق هذا الرجل بابه كان قد اطمأن علي طعام إفطاره: طبق المكرونة علي البوتاجاز وشرائح بطاطس محمرة وخضروات السلاطة والعرقسوس في الثلاجة. لا يقلقه طعام يومه فهو ومنذ شبابه واغترابه لفترات بعيدًا عن أسرته تعلم كيف يدبر نفسه، ما يقلقه حقًا اقتراب العيد وموسم زياراته للبنات وكيفية تدبير نفقاتها، في الماضي كانت زوجته فردوس تتكفل بالأمر وتعد له قبل مجيء الشهر بشهور فلا يلقي للمواسم بالا، ولا يكاد يحس بقدومها، أو وطأة تكاليفها، في مرضها الأخير اقترح عليها أن يعطيهن نقودًا بدلا من الزيارة لكنها رفضت وأوصته ألاَّ يقطع العادة، منذ رحيلها توجَب عليه أن يجهز لكل واحدة من الثلاث زيارتها: علبة كحك وعلبة بسكويت وعلبة حلوى وفاكهة الموسم وعيدية للبنت وهدايا للأحفاد، كان الأمر هينًا في سنوات مضت، لكنها الأسعار التي طارت للسماء جعلته شاقًا، يزور كل واحدة بنفسه حاملا "موسمها" في "توك توك" مخصوص، كأنما يؤدي شعيرة مقدسة يخشى عقاب الله علي نسيانها أو تأخيرها، رغم إنهن في كل مرة يلححن عليه أن يكف ولا يتعب نفسه، يكفيهن حسَه في الدنيا، يقلن إن الواجب يحتم عليهن أن يذهبن هن إليه في شيخوخته ومرضه ووحدته، بل ويلححن عليه أن يقضي الشهر الكريم معهن، ويوزع أيامه بينهن، لكنه كان يأبى، يعرف أن البني آدم ثقيل حتى علي نفسه، لا يأخذ كلامهن علي محمل الجد، عندما يطرق أبوابهن يتأكد إنهن كن ينتظرنه، يرى رءوسهن المرفوعة بإباء أمام أزواجهن، والسعادة تطفر من أعينهن، يفتح ذراعيه علي اتساعها، يندفع الأحفاد بلهفة لأحضانه والتعلق بثوب بابا جدو المجلي، فتغمره بهجة لا حدود لها، يؤكد لهن وهو يلتقط أنفاسه المبعثرة أن عادته لن تنقطع أبدًا، طالما يمتلك قدمين جيدتين يسعى بهما علي وجه الأرض، إلا إذا أراد الله له غير ذلك.
يقاطعنه بجذع حقيقي:
ـ "بعد الشر عنك يا حاج.. العمر الطويل لك.. وربنا ما يقطع لك عادة."
غلاء الأسعار وفاتورة علاج القلب والضغط ومتطلبات المأكل والملبس.. وغيرها من الضروريات، أصابت المعاش بالضربة القاضية، فتضاءل بين كفيه عامًا بعد آخر وسقط أرضًا بعد أيام قلائل من الشهر الكريم، الجنيهات المتبقية لا تكفي حاجات زيارة بنت واحدة من الثلاث بنات، كان مأزومًا من فكرة أن تنقطع العادة وهو حي يرزق؛ فأل سيء يعني انتهاء دوره في الحياة، تمنَّى ألاَ يحدث وفي صدره نفس يتردد، ومكروبًا أيضًا من فكرة أن يلجأ للاقتراض، ولمن يلجأ؟ جاره الكابتن رمزي علي المعاش مثله والحال من بعضه، الحاج عويضة صاحب وكالة الفاكهة علي الناصية هو الثري الوحيد بالحارة، لكنه بخيل، ميت علي الدنيا، ليس له صاحب إلاَ القرش الذي يدخل جيبه.
كان مهمومًا عندما سمع صوت العربة التي توقفت أمام بابه، والرجل السمين الذي ترجل بصعوبة وطرق بابه بعد صلاة العصر وسأله وهو ينهج:
ـ "مش حضرتك الحاج المجلي؟"
أجابه:
ـ "أيوه أنا.. تفضل يا بني"
سلَّم ودخل ولملم جلبابه السابغ وجلس علي أول مقعد. قال له الحاج مُرحبًا ومُعتذرًا:
ـ "رمضان كريم"
جفف الرجل وجهه بمنديل ورقي، وهو يتجول بعينين متشككتين في أثاث الحجرة الفقير، وصور الحاج في مراحل شبابه المعلقة علي الحوائط المغبرة بإهمال في عتمة آخر النهار، يقارن بتشكك بينها وبين الرجل المسن الذي أمامه.. ورد:
ـ "الله أكرم"
مد يده في جيب جلبابه العلوي، وأخرج ورقة مطوية فردها أمام عينيه، ومر علي سطورها بسرعة، ونظر في عيني الحاج خلف النظارة نظرة فاحصة للحظة ما لبثت أن عادت للورقة، وسأل مرة أخرى يتأكد:
ـ " حضرتك الحاج المجلي علي المجلي"
خمن الحاج، وعرف ما يدور برأس الرجل الغريب، فأشار لصورته الشبابية بالشعر الغزير المفروق والمرجّل علي جانبي الرأس، ثم مسح رأسه الصلعاء بكفِّه، وأقسم:
ـ "والله، ما لك علي حلفان.. هو أنا"
فوجئ الرجل بفراسته وابتسم محرجًا وعقب قائلا:
ـ "مصدقك والله يا حاج.. وعارف إن حضرتك كنت ساكن جنب وابور النور سنة 79.. صح؟"
ـ "وابور النور؟!"
ردد الحاج اسم المكان، كأنه يستخلصه بصعوبة من بئر مظلم في أعماق ذاكرته.
وعاد الرجل الغريب لأسئلته المتشككة. وتزاحمت برأس الحاج أسئلة أخرى:
من هذا الغريب الذي يعود به لأكثر من ثلاثين عامًا خلت؟ لقد انتقل من بيت وابور النور هذا منذ زمن بعيد لبيوت أخرى كثيرة، أربعة أو خمسة بيوت ما بين المنشية وكفر الحوت وفاقوس البلد.. داخل المدينة وعلي حدودها، بيت وابور النور هو البيت الذي شاهد ليلة دخلته بفردوس، ومولد ابنته البكرية أحلام، وسفره للعمل بالسعودية.
عندما رجع من رحلة عمله القصيرة هناك، وعرف بحادث سرقة بيته، قالت له فردوس مخفية رغبتها في ترك الحي: "نبني بيت قبل ما تخلص الفلوس يا حاج"، قال لها: "المالك له بيت واحد.. أما المستأجر له كل بيوت البلد"، وبحث عن بيت آخر.
مدخراته من سنوات الغربة أنفقها فيما بعد علي تعليم البنات الثلاث، وتجهيزهن عندما كبرن وتزوجن واحدة تلو الأخرى، فلم تتعرض زيجة منهن لمشكلة مادية.
عندما رحلت الحاجة فردوس بعد مرض قصير في البيت الأخير، لم يستطع البقاء فيه شهرًا كاملا، وطيفها يعايشه كل لحظة في كل ركن فيثقله بحزن الفراق، قرر تركه، واستأنف حياته بعد بحث بهذه الحجرة منذ خمسة أعوام، المهم أن منافعها تكفي حاجياته بمفرده.. 
خرج الحاج من شروده، وتأمل الرجل القلق الذي يفيض بجسمه الثقيل علي جانبي الكرسي، وبدأ الفأر يلعب في عبِّه؛ إنه يذكره بماض عفا عليه الزمن، هل هو جار قديم سقط من الذاكرة أم أنه أحد أبناء الحي القديم يقصده في حاجة؟ سأله:
ـ "لا مؤاخذه يا حضرة.. العتب ع النظر.. من حضرتك؟ وتسأل عليَ ليه؟"
عاد الرجل بكل ثقله للخلف فطقطقت مفاصل الكرسي القديم، وقال وهو يرسم ابتسامة علي وجهه:
ـ "واسطة خير"
فبادله الحاج الابتسام وقال له:
ـ "حضرتك اسمك واسطة خير؟"
بدا الرجل مهمومًا فلم يستجيب للدعابة، وضع الورقة أمامه، ومد يده في الجيب الجانبي المنتفخ، أخرج رزمة من الأوراق المالية وبان علي ملامحه الجد، وفرد كفه الأخرى برجاء مؤمل وهو يقول:
ـ "أرجوك.. وحق صيامك في الشهر المفترج.. لا تسألني عن اسمي ولا اسم اللي باعتني لك.. أنا زي ما قلت لك واسطة خير وبس"
بسط الحاج المجلي كفيه أمامه باستسلام قائلا:
ـ "مرحبا بك يا واسطة الخير وأنا تحت أمرك.. بس أفهم الحكاية"
وبإصبع الإبهام ليد مدربة، عـد الرجل عشر ورقات مالية من فئة المائة جنيه في ثانية وبسطها أمامه:
ـ "بص يا سيدي.. الألف جنيه دي دين مستحق لك علي الرجل اللي باعتني لك.. هي دي كل الحكاية"
وقبل أن يسأل الحاج": أي دين وأي مدين يا حضرة؟ وألف جنيه مرة واحدة!، منذ متى.. وأين؟ أردف الرجل يقطع عليه حبل أفكاره:
ـ "دول ثمن حاجات أخدهم من بيتك.. بيت وابور النور سنة 79 لما مراتك كانت بتزور أهلها في مصر وأنت كنت برََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََّه في السعودية"
نشطت ذاكرة الحاج في لحظة، وشعر بجفاف حلقه، لولا الصيام لفتح الثلاجة وتجرع دورق العرقسوس المثلج كله جرعة واحدة، انتصبت فردوس أمامه بعافية الصبا والوجه الأبيض المستدير الباسم، أخبرته بأنها عندما رجعت للبيت وجدت شباك المطبخ مكسورًا، واللص سرق الأشياء التي جاء بها من السعودية في آخر زيارة. تذكر أن الغضب تملكه، وهي تطلب منه ألاّ يزعل نفسه، وتمنى وقتها أن يكون بمصر وقت الحادث ليبحث عن اللص بنفسه ويقتله، إنها أشياء غالية لبيته وهدايا لأسرته جاهد في جمعها عامًا كاملا، لكنه تمالك نفسه أمام ابتسامتها العذبة وإلحاحها، فقال مهونًا: "العوض علي الله.. فداكِ وفدا أحلام" ردت عليه بارتياح:       " طول العمر لك.. تعيش وتجيب"..
كاد أن يصرخ في وجه الغريب سائلا: " أنت الحرامي ولاّ اللي بعتك هو اللي سرقني من ثلاثين سنة؟.. انطق.. اعترف.. ولا ألم عليك ناس الحارة وناخدك للبوليس"
لكن الرجل لم يدع له فرصة الاسترسال مع نفسه، أو جماع شتات أفكاره، فقد لاحقه بالإجابة قبل أن يصرخ أو يسأل:
ـ "اللي باعتني لك مريض بالسرطان.. كفاك الله شر المرض.. شهور أو أسابيع الله أعلم.. ويقابل وجه الكريم.. عاوز يخرج من الدنيا وهو نظيف.. يسدد ما عليه من ديون لك ولناس زيك ظلمهم أيام طيشه وجهله.. وطلبه الوحيد إنك تأخذ فلوسك.. لنفسك إن رضيت أو تتبرع بها بمعرفتك إن رفضت.. أنت حر.. المهم  تسامحه وتدعو له بالشفا والرحمة من عذاب المرض"
كان الرجل يضغط علي الكلمات بين شفتيه محملا إيَاها أكبر قدر من الرجاء والاستجداء والاستعطاف.
خيم الصمت للحظات علي جو الحجرة، وعينا الرجل الغريب معلقتان بشفتي الحاج، كمن ينتظر حكمًا نهائيًا لا يقبل نقضًا ولا إبرامًا، إما أن يترك النقود ويظفر بالعفو والسماح، أو أن يعود بها خالي الوفاض.
أخيرا نجحت خطته، لقد انهارت ثورة الحاج أمام فداحة مرض المريض، وترقرقت في عينه دمعة، وتحول في لحظة للنقيض وهو يحاور نفسه:
كم تساوي هذه اللحظة من عمر زمنه في هذه الدنيا العجيبة؟ ألف جنيه.. مليون.. تريليون.. إنه حقا لا يعرف.. ماذا بوسعه أن يقول لهذا الرجل الجالس أمامه يرجوه ويستعطفه؟
فقال له بصوت خفيض:
ـ "من هو يا بني الرجل المريض وأنا مستعد أزوره وأدعو له"
تهلل الوجه السمين للرجل وانتفى شحوبه، عاد إليه احمراره وقد أحس بالظفر وهو يردد:
ـ "أصيل يا حاج.. أصيل والله.. بس أنا قلت لك لا تسألني عن نفسي ولا عن اللي باعتني.. دي أمانة وأنا واسطة خير"
رد الحاج المجلي مبتسما:
"ماشي يا واسطة الخير"
صمت قليلا، عاد بذاكرته لثلاثين عاما خلتْ، حاول تذكُّر المسروقات التي سُرقت، ماذا تعني قيمتها الآن له بعد كل هذه السنوات؟: راديو ريكوردر ثلاثة موجة أكاي، خلاط مولينكس أصلي، سشوار للشعر وأحذية باكستاني وملابس للبنت، أسورة ذهبية وخاتم وحلق وأشياء أخرى كثيرة تخص فردوس لم تسعفه بها ذاكرته.
لكنه لم ينس أنها الحادثة التي اضطرته للانتقال لبيت آخر في منطقة أكثر أمانًا.
تنبه علي كف الرجل السمينة التي ما زالت ممدودة أمامه بالألف جنيه، فأزاحها بكفّه قائلا:
ـ "رجع له فلوسه يا حضرة، هو أحوج مني لها في ظروفه، وأنا مسامحه وربنا يسامح الكل"
مدَّ الرجل كفه مرة أخرى بإصرار وقال:
ـ " كتر خيرك يا حاج.. هو مش محتاج.. ربنا تاب عليه من زمان.. وفتح عليه من أوسع الأبواب.. تجارة كبيرة وثلاث عمارات وأسرة وأولاد.. هو مش محتاج منك في محنته ومن ناس زيك لسه ح أزورهم.. تقبلوا حقكم وتسامحوه"
هـزّ الحاج المجلي رأسه من أعلى لأسفل عدة مرات علامة الفهم وإشارة الموافقة.
خيم الصمت مرة أخرى للحظات، كان الحاج شاردًا، انتهزها الرجل فرصة، ترك النقود علي المنضدة، ونهض حاملا جسده بصعوبة، ومدَّ كفه السمينة متناولا كف الحاج وهــَزها عدة هزات بامتنان، واستدار مغادرًا يركب عربته وهو يردد:
ـ "كل سنة وأنت طيب.. رمضان كريم"
خيم الصمت علي الحجرة للحظات أخرى، الحاج يستعيد الموقف الذي بوغت به محاولا استيعابه، يكاد لا يصدق، تذكر البنات وهن ينتظرنه والأحفاد وموسم العيد والعيدية والهدايا، قبض علي النقود التي هبطت عليه فجأة، كأن الشهر الكريم يودعه بفيض من كرمه، "لا منَّة ولا ذلَّة يا حاج عويضة.. إنها فلوسي ومالي الحلال رجع لي بعد ثلاثين سنة"، ولولا اليوم الرمضاني وثقل الصيام والمرض، لخرج من باب حجرته ينادي جيرانه أن تعالوا يا عالم وشوفوا.. يا تصدقوا يا متصدقوش..
"الله أكبر.. الله أكبر"
في لحظة واحدة، انطلق أذان المغرب مفجرًا صمت اللحظة من عشرات المساجد وآلاف التليفزيونات والراديوهات المفتوحة.
وانطلقت مئات الطلقات المتباينة من بنادق الأطفال وصواريخهم وألعابهم مقلدين مدفع الإفطار بكل أرجاء المدينة.
المدينة كلها فرحة من وابور النور لفاقوس البلد.
انتابه إحساس عميق لا يدانيه أدنى شك بأن مدينته كلها تحتفي به في هذه اللحظة، تهلل له وتبارك.
نهض، فتح باب الثلاجة، أخرج دورق العرقسوس:
"اللهم لك صمت.. وعلي رزقك أفطرت"
تناول جرعة باردة استطعم حلاوتها اللاذعة، جرح صيامه وأطفأ بها ظمأه، ثم اتجه للبوتاجاز يجهز وجبة إفطاره، ويتناول طعامه بنفس مفتوحة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 مجلة القصة أغسطس 2010
صحيفة الجمهورية 2 ، 9 / 9 / 2010


رواية ليالي الرقص في الجزيرة

صدور رواية ( ليالي الرقص في الجزيرة ) لمحمد عبد الله الهادي
ــــــــــــــــ
عن الهيئة المصرية العامة للكتاب صدر الجزء الأول من ثلاثية ( ليالي الرقص في الجزيرة ) للروائي محمد عبد الله الهادي بعنوان ( العبــد ) في 328 صفحة من القطع الكبير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليالي الرقص باتحاد كتاب الشرقية
( مناقشة رواية ليالي الرقص بالجزيرة لمحمد عبد الله الهادي )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قدم د . محمد غنيم للندوة بأن عرَّف الناقد د . عزت جاد بأنه شاعر راسخ وناقد متميز ، كما تحدث عن المؤلف من حيث مشروعه الروائي الذي يرتكز علي المكان / قرية ( جزيرة مطاوع ) جغرافيا وتاريخياً ، وينطلق منه معبرا عن مصر كلها ..
ثم طرح الناقد د . عزت جاد ورقته النقدية المعنونة بـ ( إستراتيجية البناء الروائي في ليالي الرقص في الجزيرة ) ، وعبر عن سعادته بهذه الليلة الجميلة ( كليالي الجزيرة ) ، وقال إن الرواية ممتعة، لكن قراءته النقدية الصارمة لها أفقدته بعض هذه المتعة .
ثم أشار للإبداع الروائي بصفة عامة ، واستشهد بمقولة للدكتور أحمد درويش حول الروائية والسيرة الذاتية والاغتراب ، وأن المبدعين شاءوا أم أبوا فإنهم يكتبون شيئاً من سيرتهم لأنهم في الغالب يكتبون عما يعرفونه أو يعايشونه أو عما هم قريبون منه .. أو مسار آخر للسيرة يتفق معها أو ضدها . نجيب محفوظ يكتب عن أشياء يعرفها ويرصدها من داخله ، وتهيمن السيرة علي معظم رواياته ، والكاتب عندما ينجح في تركيز نقاط الضوء علي المغزى من هذه السيرة أو الحياتية الموغلة في الإنسانية فإنه بنفس القدر يكتب عن سيرتنا نحن القراء .. بمعنى أنني وأنا أقرأ فإنني أقرأ ذاتي بالعمل الأدبي . ثم تطرق للمدارس الأدبية تاريخياً ، وقال إن ليالي الرقص في الجزيرة تنطلق من مكان يتميز بخصوصية ( كتلة بشرية ـ جفرافية ـ تاريخية ) ، وليالي الرقص رغم تعددها بالعمل إلا أنني أراها رقص واحد في المجمل ، والبنية مستقيمة وقائمة بذاتها ، والليل يستدعى بالضرورة النهار ، أي اليوم والأيام .. وهكذا ، والرقص هو تفاعل مع الحياة وليس بالمفهوم الضيق للمعنى .
وقال إن السرد في العمل يبدأ بالراوي بكفاءة عالية إلا في الفصل الرابع الخاص بالضابط ناجي فإنه يبدأ بضمير المخاطب ، كما يتميز الحكي بالتفاصيل الصغيرة الدالة التي تدل علي الوعي المعرفي العالي بمفردات بيئة العمل ، كما يكون السارد أحيانا كالكاميرا الزووم التي تطل علي المشهد من أعلى ثم تقترب رويدا رويدا حتى تصل بنا بالتركيز علي ما يريده السارد ، وبالتالي تخفف وتنوع من الأدوات الوصفية فلا يشعر المتلقي بالملل ، كما يمتاز السرد بالتكثيف أو التجريد خاصة في المشاهد الإنسانية العالية أو الساخنة ، لكنه لم يفلت أحيانا من مجانية البنية عند التطرق للتاريخ، ذلك أن إيمانه مطلق بالواقع ، وأن أهم شخصيتين توقف أمامهما بالعمل هما ( شبيب ) و ( العبد ) ، شخصيتان تستشفان بالسرد . واللغة خاصة بناس الرواية من حيث الألفاظ والتراكيب ، وأن الكاتب بلغ الذروة في وصفه لمشهد الرقصة الأولى بالرواية حيث وصل به لحالة فائقة من الترميز ، مع توظيف موفق للفولكلور الشعبي .. صف الرجال والراقصة والحداء البدوي .. ألخ .. كما يمتاز بثرائه بصنوف متعددة من التقنيات الموظفة جيداً بلا تكلف في لحظة زمنية بعينها مع سرعة الإيقاع وتنوع المشاهد .. وكسر المألوف في الفن أمر جيد بالقطع طالما أنه لا يحدث تصدعا في البناء .. وإذا كان الراوي قد بدأ الرواية برقصة فإنه أنهاها برقصة من خلال بنية حدثية واقعية منسجمة مع زمانها ومكانها وتنفتح علي أفق واسع .
وكانت هناك مداخلات منها مداخلة للدكتور صلاح غراب الذي قال إن الرواية لا تتحدث عن جزيرة مطاوع ولكنها تتحدث عن مصر كلها ، فالرقص مطلق الحركة والاضطراب والسير .. فالرقص كلمة عامة وشاملة : رقص العبد علي الشجرة .. رقص عساكر النقطة .. رقص لطيفة .. رقص شبيب وهو يقص الأثر ..
كما تمتاز الرواية بأبعاد ثلاثة ( جغرافي وتاريخي واجتماعي ) فالجغرافيا قائمة والتاريخ ملازم للسرد في الواقع الاجتماعي المعبر عن الناس بعاداتهم وتقاليدهم : العبد يصنع البطولة ليكون كعنترة ، وشبيب بمعرفته الفطرية .. وغيرها من الأمثلة .
ثم تحدث الروائي بهي الدين عوض في مداخلته عن الشكل الروائي للعمل من حيث المكان والزمان والحدث والشخوص ، وإنه مازال الشكل الذي يتحدى كل المدارس الحديثة ويعطي مساحة كبيرة للتعبير والتجسيد التي هي هنا واضحة بثقافة المبدع : زراعيا وتاريخيا .. ألخ .. كما يمتاز السرد بالمد والجزر كأمواج البحر .. بمعنى الأحداث العامة عندما تتشكل لتقود لحدث فرد .. كذلك وضوح البطولة الثنائية المتعددة .. رجل وامرأة .. ثم الجنس كمعادل موضوعي موظف بحرفية في العمل . و( شبيب ) من أجمل شخصيات العمل ، وتساءل لماذا ركز العمل علي القبائل العربية فقط بالجزيرة رغم تنوع سكانها ، كما أن العمل يتميز أيضا بشكلين أحدهما ظاهري والآخر غير ذلك .. فما هو واضح وظاهر إنما يخفي خلفه شيئاً آخر كالعبودية والطبقية مثلاً .
وتحدث الروائي صلاح والي عن الدلتا المصرية بتنوع وثراء سكانها ومن حق الكاتب أن يختار أي شريحة ليكتب عنها .. المهم ماهي الكتابة التي جاء بها ، وأشار إنه لا يوجد شيء اسمه الواقعية السحرية بل هناك واقعية عجائبية ، واختلف معه الشاعر يحيى عبدالستار متحدثا عن مصطلح
Magic realism خاصة في كتابات أمريكا اللاتينية .
وتحدث القاص إبراهيم عطية عن الفوارق بين المجتمعات البدوية والريفية والتنافر بينهما وأشار لعمل يتناول الشرطة في رواية كاملة وهو ( يوميات ضابط في الأرياف ) لحمدي البطران .. وتساءل عن الفرق بين مجانية البنية ومجانية النقد ؟
وتحدث الروائي والناقد العربي عبد الوهاب عن الرقص في العمل كبنية حركية تحرك البنية السكونية للمكان والوصف الذي تراجع أمام الشكل التقني ( الفعل ) وقال إن العمل لا يحتفي بالواقعية في حد ذاتها لكنه يحتفي بواقعية الفن ، وإن ما سماه الناقد بمجانية البنية يسميه هو البنية المتسعة في العمل الذي هو جزء أول ، ستتلوه أجزاء أخرى ، كما إنه قال إنني وأنا أقرأ العمل تذكرت عملا آخر بنفس الحجم هو نهر من السماء لفتحي إمبابي .
وتحدث يحيى عبد الستار حول حرية الأديب فيما يكتب وإنه ليس للنقد أن يتدخل بتوجيه الكاتب لأن الرواية كبناء متسع تختلف عن القصة القصيرة .
ثم تحدث مجدي جعفر عن إن الرواية مهمومة في المقام الأول بمسألة الهوية المصرية ، وهي مسألة تؤرق الكاتب المصري الذي ينمو في بيئة بها تنوع في الزخم الحضاري بدءا من الفرعونية وانتهاءً بالعربية .
وأخيرا رد الدكتور عزت جاد علي التساؤلات الخاصة بالواقعية السحرية وغيرها من التساؤلات
ثم تحدث المؤلف محمد عبد الله الهادي عن العمل كونه الجزء الأول ( العبد ) والعلاقة بين البدو والفلاحين في جزيرة مطاوع ، وأنه مع اكتمال العمل إن شاء الله سيكون قد تناول كل الشخوص بالمكان ، وإنه يرى الجنس بالعمل معادلا للحياة .
ثم أنهى د . غنيم الندوة بمداخلة تحدث فيها عن دور الضابط ناجي في العمل كونه مع الصول نعيم وعساكر النقطة يمثلون السلطة في ذلك الوقت ، وأن الانفصال بين السلطة والقاعدة جاء مع الصفعة الشهيرة بالعمل .
......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(جزء من الرواية)
مدخل إلي الجــزيرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"
إنّـه لمنظر بهيـج أن نرى النـيل يمـر فوق الحقول وتختفي الأرض المنخفضة ، وتقع الأودية الصغـيرة تحت سطح المـاء ، وتبرز المدن كالجُـزر ، ما من مواصـلات ممكنة عبـر هذا البحـر الداخلي إلاَّ بالقـوارب " .ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"
أحـد الفلاسـفة "



مفتتـح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طلب " العبـدُ " الإذن له من الشيخ " عوَّاد السوالمي" في الصعُود فوق سطح زريبته الواقعة خلف داره . آنئذ ، كان الليلُ القادم يهبط بهدوء ، ويتسلل بخفَّة في كل أرجاء الجزيرة . هرشَ الشيخ " عوَّاد " لحيته المشعَّثة بالسواد والبياض وأذن لـه ، بأن هزَّ رأسه من أعلى لأسفل علامة الموافقة . ومن تجويف بركن الحائط ، مدَّ الشيخُ يدَه ورفع البندقية " الميزر" وناولها إيَّـاه . عندما كانت عينا " العبـد " تبرقان في العتمة ببريق السعادة ، وتبين أسنانه البيضاء ، كانتْ يداه تتحسسان البندقية ، وتختبران أجزاءها ، بشعور يمتزج فيه الإحساس بالخشوع والحب والظفر : بندقية الشيخ التي لا يأتمن عليها أحداً من أولاده الذين من صلبه ، هاهو يُعطيها لـه برضا ، مانحاً إيَّاه شهادة ثقة ، موقعاً عليها من كل أفراد السوالمة للقيام بالمهمة التي فشل في إنجازها الجميع من قبـل .. كان " العبـدُ " يفكر بشرود عندما ألقى الشيخ في حِجره بأظرف الطلقات .. طلع " العبدُ " ـ بعد أن شرب من يد الولد الأكبر القهوة المُرَّة عدّة مرّات ـ للسقف ، لبـد بين أكوام القش مقرفصاً وانتظر ، روَّض نفسه متحلياً بالصبر ، ومتدثراً بظلمة آخر الشهر العربي حالكة السواد . مرَّ الوقت بطيئاً وثقيلاً . لكنّه ظلَّ يقظاً ، لم يمنح أنجم الليل الساهرة معه الفرصة المواتية ، كي تأخذ نفسه للهواجس والأفكار ، أو تدع عقله يتشتتْ بين أمواج الظلام ، فتضيع الفرصة التي ينتظرها . لم يعرف الوقت بالتحديد عندما رآها تتهادى في العتمة ، تقترب كتلتها الشبحية التي بلا معالم ، من جذع شجرة الكافور الطالعة بجوار حائط الزريبة ، نشَّن بدقّة قنَّاص ، ضغط بإصبعه الزناد ، وأطلق عليها عيارين متتاليين في لحظةٍ ، فأصابها في مقتل . ارتطمتْ بقوَّة بالجذع . سمعها تئن أنيناً مروعاً أفـزع الجزيرة وأيقظ ناسها . ظلَّت للحظات تترنح دائخةً تبحث عن صيَّادها الماكر ، تودُّ رؤيته فلم تره ، فقد كان " العبـدُ " والسقف بلون الليـل ..أخيراً خـرَّتْ صريعةً فوق الأرض يتفجر منها الدم . هذه اللبؤة التي دوَّختْ ناس الجزيرة لأشهر طوال ، وجعلتهم يرسلُون في أثرها فرسانهم يتعقبونها ، فلم يتمكنوا جميعاً منها ، وباءتْ محاولاتهم بالفشل المرَّة تلو الأخرى ، كانت قد افترستْ حتى لحظتها الأخيرة هذه ، من دواب السوالمة فقط : عشر عنزات وخروفين . هذا العام أطلقت عليه الجزيرة اسم : " عام اللبؤة " . عام اللبؤة هذا كان عـاماً عظيمـاً : تبرع فيه " صالح أبو جمعان " بنصف بيته الطيني للحكومة ، حيث وضعتْ علي بابه يافطة ، تقول بالخط الثـلث :
"
مدرسة جزيرة مطاوع الابتدائية " .. وكان شيئاً طريفاً ، وقتئـذ ، افتتاح هذه المدرسة ، ومن ثم رؤية تلاميذ الصف الأول وهم يحملون حقائبهم المدرسية ، المصنوعة علي شكل مخالي من الدمُّور تتدلََّى من أعناقهم ، وهي منتفخة بالكتب والكرَّاسات ، وقد نبتَ لمعظمهم شوارب زغبية صفراء تحت أنوفهم . كان الأمر مقبولاً بشكل عام ، فمن أجل استكمال الفصلين تم قيد جميع المتقدمين للالتحاق بالمدرسة ، وذلك بالتساهل مع مدَى صحَّة بيانات السن في شهادات التسنين ، التي اُستخرجتْ أيضاً علي عجل . بالطبع لم يكن الأمر غريباً فيما بعـد ، ولا حتى مثيراً للدهشة ، أن يكون لبعض هؤلاء التلاميذ زوجات ، ومن ثم أطفال رضَّع كنتيجة حتمية للزواج المبكر ، وذلك قبل أن يرتقوا للصف السادس في سلّم التعـليم . أمَّا الحاج " عبد العزيز " الذي تمكن من جمع التبرعات الكافية لبناء جامع وسط البلـد ، تبرع أيضاً بنصف بيته الطيني للحكومة لافتتاح أول جمعية تعاونية زراعية ، عرفتْ الجزيرة مع افتتاحها أول مشرف زراعي لها ، هو الشاب الوسيم القادم من مدينة المنصورة : " طلعت عبد الحميد " . والجدير بالذكر أن عام اللبؤة كان أيضاً عاماً حزيناً : لأن " مبروكة " اللبَّانة فقدتْ عقلها بكل أسف في عِز الصيف ، فلقد كانت تغسل أوانيها وقـت الظهر علي حافة ترعة " بهجت " بعيداً عن بيوت الجزيرة ، كان الطقس حاراً وخانقاً ، وقد أغراها ماء الترعة البارد ، وانقطاع الرجل الماشية وقت القيلولة علي الطريق بالنزول ، نزعتْ عنها ثوبها الخارجي واكتفت بقميصها الداخلي ونزلتْ حثيثاً للترعة ، ما أن غمرت بدنها بالماء بعد أن غطستْ وقبَّـت مرتين ، حتى أحسَّت بيد غريبة تتلمسها ، انتفض جسدها فزعاً ، وسمعتْ الصوت الذي يناديها من جوف الماء ، قذفتْ بدنها للشاطئ ، والجنيَّة الشريرة تناديها بصوتها الأجـش المبحوح ، المخيف ، اللحوح : ـ " تعالي يا مبروكة .. تعالي يا حبيبتي " . أسقط الخوف قلبها في قدميها فظلَّت تجري ، ثم تسقط أرضاً ، وتنهض مهرولة ثم تسقط ، وهكذا .. هامتْ المسكينةُ علي وجهها بالجزيرة وطار عقلها . وما زالتْ حتى الآن ، تتعثر أحياناً وتسقط ، أو تهبُّ لتجري بعيداً ، لأن الصوت الجنِّي الذي زلزل كيانها ، وأفـزع أمنها بماء الترعة ، مازال يلاحقها ، ويطن في أذنيها بالنـداء الذي يدعوها حتى الآن . وكان عـام اللبؤة عـاماً لطيـفاً : لأنه شهد مولد أول قاموس " بدوي / عربي " من رحم الجزيرة للكون ، ذلك القاموس الذي أنجزه معلمُو المدرسة من أبناء المدن ، عندما صعُب عليهم فهم ما يتفوّه به التلاميذ من كلمات أو عبارات باللهجة البدوية ، فلا يدركون مقاصدها أو دلالاتها . يقول الولد : " أرعِه " .. فيحار معلِّمه ابن المدينة فيما يقصده ، حتى يدرك بعد جهد واستقصاء أن " أرعِه " هذه معناها : انظر . أوعندما يسأل المعلم تلميذه عن كراسة الحساب ، ويردُّ الولد بكلمة : " ودَّرتها " ، وبعد البحث والتقصّي بالكلام والإشارة يدرك أنُّه فقدها وأضاعها .. ، وهكذا تنامت الصعوبة مع مرور الوقت ، حتى جاء وضع القاموس كحل عبقري لتسهيل عملية التواصل والتفاهم بين الطرفين . الشيء العجيب الذي حدث فيما بعد ، أن هذا التواصل أخذ منحَى متطرفاً من الجانبين ، عندما أصرَّ المعلِّمُون علي التحدث باللهجة البدويَّة . في الوقت الذي كان فيه التلاميذ يلوُون ألسنتهم بكلمات أهل المدن ، فلا يعطِّشون الجيم أو ينطقون القاف همزة . علي كل حال كان الأمر في النهاية مضحكاً للجميع . وكان عـاماً جميـلاً : لمَّا تشكلتْ في الجزيرة أول لجنة للاتحاد الاشتراكي العربي ، التي استهلتْ أول أعمالها ، بدعوة الناس للمشاركة في إصلاح وتمهيد الطريق الداخل للجزيرة من جهة فاقوس ، ذلك بعد أن وعـد " الخواجات " باستغلال إمكانياتهم ومعارفهم في التوسط لدى المسؤولين لأجل تسيير عربة أوتوبيس عليه . ولمَّا لم يستجب أي جزايرلي لهذه الدعوة الاشتراكية بكل أسف ، فكَّر أمين اللجنة ، وكان بحق رجلاً حصيفاً . أحضر طبالاً وزماراً في بكور صبح أحد الأيام علي قارعة الطريق . الشمس كانت مختبئة ولم تطلع بعـد ، عندما كان الطبَّال يدقُّ علي طبلته الكبيرة مشدودة الجلد : بوم .. بوم .. بوم .. ، والزمَّار يرفع بوق زمارته ناحية دور الجزيرة ، التي تفرك أجفانها بعد النعاس ، يناديها : طيط .. طوط .. طيط .. طوط .. ، وهكذا استمر الطبل يدق " بوم " والزمار يرد " طيط " ، حتى خرج أهل الجزيرة ـ بدافع الفضول ـ يستطلعون الأمر ، فألفـوا أنفسهم وجهاً لوجه مع الطريق الذي يدعوهم ، ويتوسل إليهم بالطبـل والمزمار . هل خجلوا من تقاعسهم ؟هل أدركُوا مدى تقصيرهم أمام النظرات اللوَّامة لأعضاء اللجنة ؟ .. المهم ، أنهم في النهاية أحضروا فئوسهم ومقاطفهم وحميرهم ، وعلي صوت النغمات الراقصة مهَّدوا الطريق . وكان عام اللبؤة عـاماً وطنيـاً : فقد جنَّدتْ حكومة الثورة شابين آخرين بالقوَّات المسلحة المصرية ، بالإضافة للجنديين المجندين من قبل : " محمد عامر و سعيد عجوة " . وكنا نحن أهل الجزيرة برغم كل الأحداث التي توالتْ عقب موت اللبؤة ، ننتظر بفارغ صبر لا ينفد ، قدوم الأسد في أية ليلة ، بظن أنه سوف يترك عرينه في التلال الأثرية جنوبي الجزيرة ، للبحث عن زوجته الصريعة ، مقتفياً أثارها عند زريبة السوالمي ، ويجنبنا بذلك مشقَّة البحث عنه . لكنه خيَّب آمالنا فيه ، فلم يتحرك من موضعه ، فنال عظيم احترامنا ، وتقديرنا لبعد نظره ، بعد أن أثبت بحق أنه زوجٌ عاقلٌ . لكنه علي الجانب الآخر استحق سخط نساء الجزيرة وتقولهن بالباطل عليه ، بأنه لا يمكن أن يكون أسداً حقيقياً ، وأنه بالتأكيد تيسٌ بلا قرنين . وازداد اللغط بين الفريقين فيما بعد : هُن يفتحن أفواههن باتساع ، ويلعبن ألسنتهن بسخرية ، ويقلن :ـ " تيـس " . ونحن معشر الرجال ، في المقابل ندقُّ قبضات أيدينا في بطون الكفوف الأخرى ، كيد الهـاون لمَّا تدق قعره ، علامة الغل عند النساء ، ونردُّ عليهن من بين أضراسنا : ـ " ملك .. ملك الغابة والتلال الأثرية " . مدخل الجزيرة يبدأ عند كوبري الميزانية ، الذي تحتضن حوائطه المجرى المائي من عند القاع ، حيث ينبت منها وعلي مقدمته ميزان الماء الرخامي الأبيض المستطيل ، خطوطه وأرقامه سوداء ، تبدأ من الصفر وتتنامى مع ارتفاعه . الريس " الهادي " ـ بحَّار الري ـ يمسك بخطافه الحديدي ، يُسقط أويرفع الخشبات في المجرى المصقول بالحائطين المتوازيين اللذين يحفَّان الماء الجاري ، أيام " البطالة " حيث يتوقف الماء أو " العمالة " حيث يتدفق الماء ، فيروِّض اندفاع سريانه الذي لا يتوقف . يرنو للمقياس الرخامي ويسجل في النوتة الصغيرة بقلمه الكوبيا مناسيب الماء ، ثم يدسَّها في جيب صديريته ، يمضي في الشارع الذي يخترق حدائق " الخواجات " الواسعة ، الذي يسلمه بعد وقت قصير مع نهاية الأسوار إلي منطقة خلاء ، لا تلبث أن توصله لأول بيوت الجزيرة والتي تكون في البداية قليـلة ، متناثرة بعشوائية ، ثم تنتظم وتتكاثف فيما بعد لتصنع شارع وسط البلد . ـــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــ
شهـــــــــــــــــــادة
ستعرفني حتمًا .. إذا عرفت قريتي
بقلم
محمد عبد الله الهادي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كنت قد استيقظت مبكرًا قبيل شروق الشمس علي غير العادة، هذا يوم مشهود من أيام حياتي، أول يوم لي بالمدرسة، ودعتني أمي بعد أن ارتديت المريلة الكاكي وحملت حقيبة قماسية علي كتفي واصطحبني أبي، سلكنا طريقًا ترابيًا ملتويًا بين الحقول، قطعنا فيه خمسة كيلومترات حتى المدرسة بقرية "الصوفية" المجاورة. لم تكن بقريتنا مدرسة آنذاك، كان طابور الصباح منتظمًا عندما صافح أبي الأستاذ محمد عبد الدايم ناظر المدرسة صاحب الشخصية القوية المؤثرة في الناس، الرجل السياسي الذي عرفت عنه عندما كبرت أنه ناصري حتى النخاع، وتسبب هذا في عزله من رئاسة المكتب التنفيذي للاتحاد الاشتراكي بالمركز ـ في بداية عهد السادات بعد رحيل عبد الناصر وتغير اتجاه البوصلة ـ لوظيفة صغيرة بالإصلاح الزراعي، فأصيب بالاكتئاب والحزن و ومرض ومات. أخذني أحد المدرسين من يد أبي وأوقفني أمام طابور من الأطفال الصغار عرفت أنهم زملاء فصلي، وكان الأطفال بالصفوف الأخرى بالطابور آنئذ يرددون نشيدًا بصوت عال.. أغنية عبد الوهاب الشهيرة:
"ناصر كلنا بنحبك.. ناصر ونعيش ونقولك.. ناصر يا حبيب الكل يا ناصر"..
وكنت أنا و طابور الأطفال الجدد المعوج صامتين، لا نفعل شيئًا، نتطلع بدهشة عشوائية غير منتظمة للآخرين، وانتابتني رغبة ملحة في أن أردد معهم النشيد، وما أن انتهوا من نشيدهم الصباحي حتى جاء مدرس آخر يصحح من اعوجاج طابورنا الهمجي، فأخذني من مقدمة الطابور إلي مؤخرته قائلا لي: "أنت طويل .. من هنا ورايح مكانك هنا".
حزنت واعتبرت ذلك إهانة.. لكنني فيما بعد قررت أن أخيب ظنه في طولي، فتفوقت في الدراسة واختاروني رائدًا للفصل، فصرت أقف دومًا أمامه، أردد كل صباح بصوت عال:
"ناصر كلنا بنحبك.."
أو"الله أكبر فوق كيد المعتدي..".. وغيرها من الأناشيد الوطنية.
* * *
أتذكر الآن، بجلاء، أنني كنت أمارس اللعب مع أقراني في القرية ليلاً حيث النهار نقضيه في كتَّاب الشيخ إسماعيل، نحفظ القرآن ونعرف أبجد هوز والقنُوت والتحيَّات المباركات ونسب الرسول من جهة أمه ومن جهة أبيه ..
كنت طفلاً شغوفًًا بالحكي، لقد نشأنا منذ الصغر علي سماع "الحواديت"، ومن ثم إعادة حكيها مئات المرَّات، وما زلت أذكر كيف كنت ألح، أنا وأخي، علي أمِّي كي تحكي لنا "حدوتة ما قبل النوم"، وأصر علي هذا ملحًا بعناد طفولي لا ينجاب أبدًا، مهما كانت مشغولة أو مهمومة أو متعبة أو راغبة في النوم. ولم تكن ـ رحمها الله ـ تحكي لنا "حدوتة" واحدة، بل أكثر، حتى يتغلب سلطان الكرى علي أجفاننا، فنغرق في نوم مشبع بأحلام الحواديت.
ولقد أدركت، ومن خلال سماعي لأمِّي، أننا نمتلك كنزًا ثريًا من التراث الشعبي.
في قريتي "جزيرة مطاوع" لم تكن الكهرباء قد وصلتها بعد، فضلاً عن كل وسائل الاتصال الحديثة، لذا فقد كنَّا نتجمع نحن الأطفال كل مساء للعب تحت ضوء القمر، الذي يعكس شعاعه الفضي علي حبَّات الرمال البيضاء تحت بواطن أقدامنا، ويظل رفيقنا طوال الليالي المضيئة إلي أن نفتقده في الليالي المظلمة آخر كل شهر عربي، نلعب ألعابًا كثيرة، اكتشفتُ فيما بعـد بدهشة، أن أصولها ترجع لأجدادنا الفراعنة أو آبائنا العرب، لقد شاهدتُ بعض هذه الألعاب وقد صورها المصري القديم علي جدران المعابد كما نلعبها نحن بالضبط، ومنها لعبة كنَّا نطلق عليها "لعبة الفشقة": وهي لعبة رياضية، الغرض منها اختبار قوّة اللاعب، وهي واحدة من عشرات الألعاب التي كنا نلعبها، ولا يعرف عنها أطفال اليوم ـ ومنهم أطفالي للأسف ـ شيئًا، ولم تكن لعب للتسلية فقـط، بل لاختبار القـوَّة وبناء أجسام الصغـار.
* * *
كنَّا بعـد أن ننتهي من اللعب الجماعي، وتهمد أجسامنا الصغيرة تعبًا، نتحلق في ساحة أو علي مصطبة بجوار جدار، لنختتم ليلتنا بحكي "الحواديت" التي عرفناها من أمهاتنا وجداتنا، علي كل واحد منا أن يحكي "حدوتة"، وبالطبع تكون الأولوية لمن يحكي "حدوتة" جديدة لم نسمعها من قبل، ولم تكن جعبتنا تخلو من هذا الجديد، الذي تزودنا به الجدَّات والأمهات قبيل النوم. ولأن جزيرة مطاوع كانت تضم خليطاً من الفلاَّحين والبدو الذين استقروا واحترفوا الزراعة مع الرعي، فإن حلقات الحواديت هذه كانت تضم أطفال الجميع، يقول الفلاَّحون عنها "الحواديت" ويقول البدو عنها "الخراريف"، وباللهجة البدوية كان الطفل البدوي يقول:
"قول لي خرِّيفه.. خَرِّفني"..
لم تكن "الحدوتة" تختلف عن "الخريفة" في البناء أو السمات العامة التي تميزها أو حتى الحدث الرئيسي، بل إنها كانت تتشابه وتتطابق إلي حـد بعـيد، إلاَّ من بعض التفاصيل الصغيرة، التي لابـد أن البيئة الزراعية أو الصحراوية قد تركتْ بصمتها عليها:
"ست الحُسن والجمال" في "الحدوتة" هي "لولجة" في "الخريفة"، وقد تكون هي "سندريلا" أو "سنوهوايت" في الأدب العالمي.. إنها البنت رائعة الجمال التي يعشقها الشاطر حســــــن.
الثور في "الحدوتة" يقابله الجمل في "الخريفة"، والجان الذي يتحول إلي "قـط" ليخطف الزوجة في "الحدوتة" هو نفسه الذي تحول لـ "حرذون" ليؤدي نفس الغرض في "الخريفة".. وهكذا تتبادل كائنات كل بيئة حسب مكانها لتؤدي نفس الدور تقريبًا.
(جمعت مؤخرًا بعض الحواديت مع دراسة في كتاب لم يصدر بعــــد).
في مدرسة الصوفية الابتدائية كانت هناك حصَّة في الجدول اسمها "قصص"، وفي ركن الفصل مكتبة صغيرة تحايل معلمنا الأستاذ فتحي علي صنعها من أقفاص الجريد المبطن بالورق المقوي، وكان بها عدد كبير من قصص الأطفال المترجمة، قصص كانت في الأصل إنجليزية أو فرنسية أو صينية أو يابانية، بالإضافة لقصص عربية تراثية، أو قصص كامل كيلاني أشهر كاتب أطفال في ذاك الوقت.. نأخذ القصص من المكتبة لدورنا ونقرأها، وفي الحصة التالية يقف كل منا ليحكي للآخرين القصة بأسلوبه الشفهي.. وكنت أكثرهم قراءةً وحكيًا.. حتى أنني أحيانًا كنت أحتكر الحصة بأكملها لصالحي. وجعلني هذا الحب للقراءة متفوقًا في "الإنشاء والتعبير"، فكنت أحصل علي أعلى الدرجات، بل وأقرأ ما كتبت من مواضيع مميزة علي مسامع الفصل علي سبيل التشجيع والتقريظ، وأذكر أن بعض مدرسيَّ في المراحل التالية كانوا يحتفظون بكراساتي هذه في نهاية العام لديهم علي سبيل الاعتزاز والتذكر.
إنهم معلمو الزمن الجميل.
* * *
كنت أشترى بقروش مصروفي القليلة بعض المجلات الدورية، أو الكتب التي يتيسر وجودها مع بائع الصحف، الذي كان يجيء كل صباح مع قطار الدلتا البلجيكي القديم القادم من كفر صقر متجهًا إلي المنصورة، والذي اختفى منذ سنوات، وما زلت أحتفظ ببعض كتب هذه المرحلة في طبعتها الأولى ككتاب الولد الشقي لمحمود السعدني، كما كنت أقرأ الصحف التي كان يأتي بها أبي إذا ما سافر إلي فاقوس بين الحين والآخر، كذلك أبتاع كتبًا من العم إبراهيم، وهو بائع خردوات من قرية بعيدة، وكان يأتي لقريتنا يوم السوق من كل أسبوع، ويفرش بضاعته القليلة أرضًا، حاجات تحتاجها نسوة القرية ويقبلن عليها، وعلي أحد أركان فرشته كان يبيع كتبًا قديمة لا أدري من أين يجلبها، بالإضافة لكتيبات أغاني أشهر مطربي العصر أم كلثوم وفريد وعبد الوهاب وعبد الحليم وغيرهم، وكتب قصص ألف ليلة وليلة كمعروف الإسكافي وعلاء الدين أبي الشامات وغيرها في طباعة فقيرة من حي الأزهر.. كانت الكتب بضاعة غريبة في سوق قروي لمجتمع تسوده الأمية آنذاك.. وكنت واحدًا من زبائنه القلائل.
* * *
قبل أن أودع المرحلة الابتدائية بتفوق، كنت قد قرأت بعض القصص القصيرة التي وقعت في يدي مصادفة من كتب أو مجلات، وما زال ذاكرتي تحتفظ بقصة لتوفيق الحكيم لا أذكر اسمها الآن، وأخرى لمحمود البدوي اسمها "النار" ، ذكرتني باسمها ابنته ليلى البدوي التي تعيد نشر إبداعه علي شبكة النت الآن، أخذتني القصتان بقوَّة لعالم هذا الفن الجميل، فحاولت كتابة أول قصة في حياتي عن مشاعر فتاة فقدت أمها ليلة زواج أبيها بأخرى، ومع العام الأول للمرحلة الإعدادية (المدرستان متجاورتان بالصوفية) انطفأ نجم عبد الناصر الذي كنا نغني له في طابور الصباح مع هزيمة 1967م، وانتابني حزن شديد، وفقدت قريتي بعض الشهداء في هذه الحرب، ورسمتُ كثيرًا من اللوحات التي تدعو للصمود والكفاح، فقد كنت أعشق الرسم وأحصل علي أدواته مجانًا من المدرسة، وكنت أعلقها علي الحوائط،؛ جندي يطأ علم إسرائيل أو صاروخ يخترق مؤخرة موشي ديان، وأحرر مجلات حائط أنشر فيها بعض ما كتبت من قصص بتشجيع من ناظر المدرسة الأستاذ "فريد" رحمه الله، وأذكر أنني رُشحت لرحلة للمتفوقين علي مستوى المحافظة لمدن طنطا والمحلة الكبرى وكفر الدوار لزيارة المعالم الصناعية والسياحية بها، وكتبت عن الرحلة موضوعًا طويلا يقارب حجم كراسة، آثرت أن أكتبه بأسلوب أدبي كما يكتب الرحالة عن رحلاتهم، وألحقت به رسوم لأشهر الأماكن التي زرتها بقلمي الفحم، ودفعني الأستاذ فريد دفعًا ـ عندما أحسَّ بخجلي ـ أن أقرأها علي زملائي في الطابور. كما أذكر أنني حاولت في تلك الفترة تأليف كتاب عن قريتي جزيرة مطاوع، وكتبت فيه ما يقرب من الأربعين صفحة ثم توقفت.
* * *
كان للراديو دورًا كبيرًا في حياتي قبل ظهور التليفزيون، كان لدينا راديو كبير الحجم يعمل ببطارية كبيرة، لقد كنت مستمعًا عظيمًا، أقضي بجواره الساعات الطوال، وأحتضنه بالليل وأقربه من أذني إذا ما نام الجميع وأزعجهم صوته.. أحلق بخيالي مع الأغاني والمسلسلات والبرامج والأخبار والموسيقى، وأعترف صادقًا أن للراديو تأثير كبير في تكوين ثقافتي المبكــــــــرة.
* * *
والحقيقة أنه كانت تنازعني رغبات شتَّى في هذه المرحلة من العمر، في أن أكون زعيمًا سياسيًا أو كاتبًا كبيرًا أو طبيبًا أو مهندسًا أو مطربًا شعبيًا يجول بالقرى أو ممثلا إذاعيًا أو صحفيًا أو أستاذًا جامعيًا .. فإذا ما صادف حياتي شخص ناجح تمنيت أن أكون مثله.
* * *
كانت قريتي ككل القرى المصرية، تنهض من ثباتها الطويل نحو التطور السريع بفضل ثورة يوليو؛ مدرسة وجمعية زراعية ومكتب بريد وسنترال .. ألخ، كانت تستقبل عصرًا جديدًا يغير كل شيء فيها، لقد كنت مهتمًا بالحياة العامة مشاركًا فيها ، كنت عضوًا عن الشباب بالاتحاد الاشتراكي العربي بلجنة العشرين بالقرية، التي لم تجتمع سوى مرة واحدة، وحدث خلاف شديد بين الأعضاء الذين كانوا يمثلون رؤوس العائلات بالقرية، فانفض الاجتماع علي أثره دون عودة، فأدركت من وقتها أن المثاليات في عالم السياسة وهم كبير. وكنت عضوًا بمنظمة الشباب وأردد مع زملائي القسم بإخلاص شديد، وكنت أشارك بجدية في مشاريع الخدمة العامة التطوعية كمحو الأمية أو مقاومة الحشرات كالبعوض والذباب أو إصلاح الطرق أو الأنشطة الرياضية بالقرية، وسجلت اسمي مع المتطوعين لإخراج إسرائيل من أرضنا المحتلة، لكنني لم أجند إلاَّ بعد حرب أكتوبر 1973م بأربعة أعوام عند تخرجي من الجامعة، كانت رائحة البارود تتلاشى عبر فضاء الشرق الأوسط .. ولم يكن في ظنِّي أنها سوف تتجمع لتتفجر بعد سنوات في أماكن أخرى، وأن السبعينيات ستكون عاصفة علي كثير من الثوابت، وأن غول النفط سوف يخرج من قمقمه ليطال أخص خصوصيات حياتنا.
* * *
ظلت القراءة ومحاولات الكتابة أمرين متلازمين معي طوال سني الدراسة، أتردد علي المكتبات وأستعير الكتب أو أقتنيها، ومن أشهر المكتبات التي استفدت منها في الفترة الجامعية مكتبة دار الكتب القديمة التي كانت قائمة آنذاك علي كورنيش نيل الزقازيق (باع أحد المحافظين موقعها المتميز لجهة استثمارية وعُبئت كنوزها في كراتين ونُقلت لمواقع مهملة، سرقت ونهبت قبل أن يبادر أحد أساتذة الطب من روادها بالتبرع بإقامة موقع بديل لها).
وكنت أرى يوسف إدريس عندما يأتي لتفقد أرضه الزراعية قرب قريتي، ولكم تمنيت أن أقول له أنني أقرأ قصصه الجميلة وأنني أحاول الكتابة، لكني لم أجرؤ، إلي أن باع الأرض في واحدة من أزماته فلم أعد أراه.
كنت مغرمًا بالسينما، أتردد بصفة منتظمة علي سينما النصر بفاقوس أو سلوى بأبي كبير أو سينما مصر أو سينما سلمى بالزقازيق أو سينمات القاهرة عندما أزور أختي.. وما زلت أذكر تزاحم الروَّاد الشديد عندما يكون هناك فيلم لعبد الحليم حافظ ابن الشرقية ، نخرج من السينما مدججين بقدر هائل من الأحلام والرؤى والإقبال علي الحياة.. وفي ليل الشتاء البارد، ننعطف نحو محطة السكك الحديدية فوق الإسفلت المبلول صوب عربات البليلة، نتناول الأطباق الساخنة بخمسة قروش قبل أن نأوي لحجراتنا التي نستأجرها بالأحياء الشعبية.
كل دور السينما بالشرقية أقفلت أبوابها منذ سنوات، وأقيمت علي أنقاضها مشاريع تجارية.
وكنت أحيانًا أعبر بحر مويس من الكوبري الحديدي الضيق قبيل كوبري المحافظة، وأرى علي صفحة النهر مركبا أو أكثر يتنزه فيها العشاق والأحبة والأصدقاء بين ضجَّة من الأضواء الجميلة المنعكسة علي صفحة المياه.. الآن، صار المرسى الصغير مهجورًا إلاَّ من صيادي الأسماك الذين يعرضون بضاعتهم للمارة وفوق رؤوسهم مكتوب بخط متعرج:
"ما اجتمع رجل وامرأة إلاَّ وكان الشيطان ثالثهما"
* * *
دعيت لكلية التربية بجامعة الزقازيق للقاء أدبي، في المدرج المكتظ بالطلبة والطالبات، كنت أسأل نفسي: ماذا يقرأ هذا الجيل؟ هل قرأ أحدهم ولو قصة لي؟ ما علاقة هؤلاء الأبناء بالثقافة في مجتمع لا يهتم بها؟ أو علي الأكثر يضعها في آخر اهتماماته؟ هل يعرفون الأدباء الذين يبدعون علي بعد خطوات من جامعتهم؟ هل يقرأون أدبًا.. رواية أو قصة أو شعرًا؟.
ولقد ترجمت هذه التساؤلات مرَّة أخرى حول دور الجامعة بالبيئة المحيطة في خطابي بمؤتمر "التراث بين القطيعة والتواصل" الذي شرفت بأمانته في بداية عام 2004م.. كان هناك انقطاع بين الجامعة والحياة الأدبية في البيئة المحيطة، وكانت حلقات البحث أو الرسائل بغير موضوعية تنصب علي المشهورين من الأحياء أو الذين رحلوا وكتب عنهم ألاف الصفحات.
ما زالت كلمة الثقافة في الواقع الرسمي والشعبي تأتي في ذيل القائمة بالنسبة للأولويات، ونظرة للانتخابات البرلمانية المتعاقبة للمجالس النيابية تؤكد خلوها من كلمة ثقافة علي مستوى المرشحين أو البرامج، مع تصاعد متنامي للجماعات الدينية المعادية للحياة، وازدياد أطوال اللحى لزملاء في العمل، واختفاء وجوه كثيرة لزميلات وراء النقاب وخيام من الملابس السوداء.
* * *
في وقت متزامن نشرت مجلة الهلال قبيل منتصف ثمانينيات القرن الماضي قصة لي بباب يشرف عليه الناقد الفني كمال النجمي، ونشرت فريدة النقاش قصة بأدب ونقد تحت باب كتابات جديدة، ونشر محسن الخياط لي قصة أخرى بجريدة الجمهورية، ثم توالى النشر في الصحف والمجلات والدوريات الأدبية.
وصرت أتردد علي التجمعات والمنتديات الأدبية وأتعرف علي الأدباء بها، ترددت علي هيئة الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية بالإسكندرية، جمعية الخدمات الأدبية بالقاهرة، رابطة الأدباء بكفر الزيات، نادي القصة بالإسكندرية، نادي القصة بالقاهرة، ندوة المساء.. وغيرها من الأماكن الأخرى.. ولقد ظل هناك رجلان وقفا بجانبي دون أن تكون بيني وبينهم صلة إلاَّ طابع البريد هما: محسن الخياط ومحمد جبريل.
* * *
نشرتُ مجموعتي الأولى "عيون الدهشة والحيرة" عام 1989م عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بتشجيع من عبد العال الحمامصي ومحمود العزب رحمهما الله بعد أن فشلت محاولتي مع دار نشر خاصة ذات اتجاه ديني، تأكدت أن اهتمامها بالأدب ليس إلاَّ ذرًا للتراب في العيون، في مقابل تمرير أعمال سياسية دينية ضد الحقبة الناصرية التي عانوا منها، ذلك بعد أن ترددت عليهم حوالي العام، ينتقون ويستبعدون بحجة أن هذه أو تلك لا تتناسب مع سياسة الدار. ثم نشرت لي هيئة الكتاب أيضاً بعد ذلك بعام روايتي "أنشودة الأيام الآتية" التي كانت فائزة بإحدى جوائز مسابقة د. سعاد الصباح، وأعاد د. سمير سرحان نشرها بمكتبة الأسرة عام 1996م، ولقد ظل هذان العملان يمثلان البداية، رغم أن العمل الذي تقدمت به لدار النشر الخاصة لم ينشر بعد، وهذه واحدة من عجائب النشر بمصر تصلح أن تكون رواية، وما زلت أجد صعوبة في نشر أعمالي حتى الآن، وربما كانت هذه الصعوبة هي دافعي الأول لمشاركتي في العديد من المسابقات الأدبية حيث يعني الفوز نشر العمل، بالإضافة للجائزة التي ترطب حياتي قليلاً.
شاركت وفزت في مسابقات نادي القصة بالقاهرة، نادي القصة بالإسكندرية، هيئة الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، جريدة المساء، جمعية الخدمات الأدبية، جماعة رفاعة الطهطاوي، المجلس الأعلى للثقافة، المجلس الأعلى للشباب والرياضة، جائزة أحسان عبد القدوس في القصة القصيرة، هيئة قصور الثقافة، مسابقة د. سعاد الصباح، نادي جازان الأدبي بالسعودية، الشئون المعنوية ومجلة النصر للقوات المسلحة، موقع نادي حائل الأدبي بالسعودية، موقع لها أون لاين الالكتروني، وإذاعة صوت العرب، إذاعة القناة،.. وغيرها من المسابقات.
في عام 1992 نشرت مسرحية "الأخوان" في عمل مشترك عن إقليم شرق الدلتا الثقافي، وفي عام 1995 نشرت مجموعتي القصصية "الحكاية وما فيها" عن أصوات أدبية بالهيئة العامة لقصور الثقافة، وفي عام 1997 نشر لي المجلس الأعلى للثقافة روايتان قصيرتان هما "الأحلام تتداعى وضباب الفجر"، وفي عام 2002م نشرت مجموعة "حلقة ذكر" عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، وفي عام 2004 نشرت رواية "عصا أبنوس ذات مقبض ذهبي" عن كتاب اتحاد الكتاب، ومجموعة امرأة وألف وجه عن سلسلة خيول أدبية 2006م، والشغالة الذكية قصص أطفال عن سلسلة قطر الندى 2006م، والجزء الأول من رواية ليالي الرقص في الجزيرة "العبد" 2007م عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
وما زال لدي العديد من الأعمال الأدبية في انتظار النشر. أعمال روائية وقصصية ومسرحية وأعمال للأطفال وأعمال نقدية .. فأنا أمارس النقد أحيانا ليس كناقد متخصص ، ولكن من باب إبداء الرأي والمشاركة في مناقشة أعمال لم تجد من يتناولها بالنقد، في مواجهة تعثر حركة نقدية غير مواكبة بالمرة أو متابعة لما يصدر من أعمال أدبية.. وقد نشرت جزءًا من هذه المقالات النقدية والأدبية في كتاب إلكتروني بموقع ناشري بعنوان "عبد الناصر وذو القناع الجلدي"2004م.
* * *
ما الذي دعاني لتشبيه الناقد ببائع البطيخ؟.. ما زلت أعتقد أن هناك علاقة ما بين الاثنين، فالناقد الماهر كبائع البطيخ الماهر، الناقد الجيد يكون أمينًا مع النص وأمينًا مع المتلقي، فلا يخدعه أو يغشه ببضاعة مضروبة، هو كبائع البطيخ الذي يرفع الثمرة الخضراء بين يديه، يربت عليها أو يضغطها بين كفيه فيعرفها، ويبيعها لك علي أنها ثمرة حمراء، فتجدها فعلا كذلك، أما إذا كان مخادعًا فحتمًا ستجدها "قرعة"، كثير من النقاد يبيعون لنا الوهم بتسويق أعمال قليلة الشأن، أو يجترون أنفسهم أمام أصحاب الصوت العالي أو أصحاب الشلل أو تبادل المنافع.. تفاجأ بأن كثير من الأعمال الجيدة تأتي وتمضي دون كلمة نقد منصفة.. بينما يصدعون رأسك بمقالات تتناول أعمالاً تافهة. ولهذا يفرض السؤال نفسه : لماذا يتصدر أناس بعينهم المشهد الثقافي المصري؟ لماذا هم ولا غيرهم في وسائل الإعلام أو بعثات التمثيل للخارج أو المؤتمرات أو المنتديات أو أجهزة الإعلام؟ .. لماذا لم تتم حتى الآن دراسة الأجيال التالية علي جيل الستينيات ومعرفة دورها الحقيقي في مسيرة الإبداع؟.
ولأن الحركة النقدية مصابة بالعجز والتشوه، فإننا، الأدباء، في محاولة لرأب الصدع، نلجأ أحيانا للكتابة عن أعمالنا، ليس مهمًا أن تكون المعايير النقدية مؤكدة وقياسية، بل الأهم هو المتابعة للخروج من دائرة النسيان. أمارس هذا أحيانًا إذا سنحت الفرصة، ففي مؤتمر الرواية الأخير بالمجلس الأعلى للثقافة بمصر 2007م، كتبت عن ثلاث روايات يعيش كتابها خارج العاصمة.
***
لقد تناول أعمالي كثير من النقاد الجادين ، لكنني لاحظت أن هناك كثيرًا من الظواهر المرتبطة بأعمالي لم ينتبه لها أحدهم، ذلك أن معظمهم يتناول عملاً واحدًا أو اثنين دون أن يربط أعمالي كلها ببعضها، وعلي سبيل المثال:
أولا: ظاهرة التوالد القصصي.. أي أن تتوالد من فكرة القصة الواحدة قصص أخرى، أو قل تنويعات مختلفة علي لحن واحد، فالثلاثيات في قصصي كثيرة مثل "ثلاثة وجوه لعملة واحدة"، "الجزيرة في ثلاث قصص"، "ثلاث حالات تليفزيونية".. وغيرها من التضاعيف مثل "البلغة" و"البلغة مرَّة أخرى"، و"جنين يا جنيني.. عشر حكايات "، و "الكلاب أبناء الكلاب.. ست قصص" أو"وانتصب ثم انفض.. ثلاث حكايات" أو"الموت في حكايات" أو"كفان" أو"وجهان لعملة واحدة".. وغيرها الكثير مما أبدعت.
والحقيقة أنا في حاجة لناقد جاد يقرأ الظاهرة ويحللها، موضحًا إذا ما كانت تتماس مع إبداع آخرين يفعلون نفس الشيء أم لا؟.
ثانياً: "المعارضات القصصية".. ولقد فعلها البعض من قبل، أذكر منهم الكاتب الكبير يوسف الشاروني عندما تناول واحدة من شخصيات نجيب محفوظ وهي "زيطة صانع العاهات" في قصة من هذه النوعية.. ولقد كتبت أكثر من قصة علي هذا المنوال، أشهرها قصة "أ كان لا بد يا عبد العال أن تبص لي؟" في وجهة نظر أخرى لقصة يوسف إدريس الشهيرة "أ كان لابد يا لي لي أن تضيئي النور؟"، وقصة "الدنيا سيرك كبير" في موازاة لقصة يحيى الطاهر عبد الله "حكاية علي لسان كلب".. ولقد تنبه لهذه المعارضات الناقد الصديق أحمد عبد الرازق أبو العلا عندما تناول بالدراسة مجموعة "حلقة ذكــر".. لكن المدهش أن ناقدًا من بائعي البطيخ لم يعجبه هذا الأمر أو هذه المعارضات، وقال ببساطة إن الإعجاب بأي قصة لكاتب ما، لا ينبغي أن يتبعه كتابة قصة أخرى.
أقابل أحيانا أدباء لا أعرفهم، أو أناس من العامة يقرأون الأدب ، فيذكرني أحدهم مبديًا إعجابه بقصة كنت نشرتها هنا أو هناك منذ سنوات، فأشعر بالسعادة، وأشعر أن ما أنفقته من عمر في هذا الفن لم يذهب هباءً منثورًا.
* * *
في الكتابة أحيانا لا ألتزم بالقواعد الصارمة عمدًا، وأجد متعة في التدفق علي الورق، قصة "حلقة ذكر علي شرف الفقيدة" تجاوزت الخمسين صفحة، وصنفها النقاد كقصة قصيرة، ورغم الحتمية التي أشار إليها عمنا يحيى حقي عند كتابة القصة، ومدى أهميتها في ضبط السرد بعيدًا عن الزخارف، والتأني في اختيار الألفاظ، إلاَّ أنني أتحرر من ذلك أحيانًا ولا أتقيد حرفيًا، خاصة إذا ما جاءت القصة جافة، وتحتاج من وجهة نظري لترطيب ما لتكون سهلة البلع إذا جاز المعنى، وأعني بشكل آخر ذلك الأثر الذي تتركه القصة لدى المتلقي، مثل ما كان يفعل الحكاء الشعبي الماهر عندما يتعمد ألاَّ يصل إلي ما يريده مباشرة، بل يتلكأ قليلاً، مستمتعًا بدموع مستمعيه أو مبتهجًا بضحكاتهم .. أفعل ذلك بحرص ودون إغفال لروح حتمية القص لعمنا يحيى حقي، وحرصه الشديد بألاَّ يُسمع صرير القلم علي الورق.
وما زلت مؤمنا بأن اختيار الموضوع للقصة يأتي في المقام الأول، فأنت لن تستطيع أن تصنع حلوى جيدة من دقيق فاسد مهما كنت ماهرًا.
والقصة التقليدية موجودة لديَّ جنبًا إلي جنب مع القصص الأخرى التي تنحو نحو الحداثة: العبث والقصيرة جداً واللا حدث أو قصة تعدد الضمائر أو قصة الأصوات أو غيرها.
أكتب وأنا أشعر أن حجم الحرية في الكتابة تراجع عن الماضي، وأن الرقيب الداخلي للكاتب تعاظم دوره، وأن سكين السمَّاك الذي لم يقرأ "أولاد حارتنا" طالت عنق نجيب محفوظ، وأن شوارع القاهرة اهتزت تحت أقدام طلبة وطالبات الأزهر لمجرد بضع عبارات جاءت علي لسان شخصية في رواية "وليمة لأعشاب البحر" لحيدر حيدر ولا تمثل بالضرورة وجهة نظر الكاتب أو الناشر، وأخطر الأمور التي تحدث، تلك التي تنصب من رجل الدين ناقدًا أدبيًا، فيختلط الحابل بالنابل، وتتفرق دماء كتّاب الأدب بين قبائل التعصب.
أقول هذا وقد سعدت بمتابعات نقدية لمحسن الخياط ومحمد جبريل و عبد العال الحمامصي وأحمد عبد الرازق أبو العلا ود. صلاح السروي و د. محمد عبد الحليم غنيم ود. عزت جاد وصبري عبد الله قنديل ود. أحمد يوسف ود. حسين علي محمد ، ود. خليل أبو ذياب وسمير الفيل وجمال سعد محمد ود. نبيل راغب وإبراهيم عطية والعربي عبد الوهاب ومجدي جعفر و ياسر عبد العليم ود. عبد السلام سلام و بهي الدين عوض ويحيى عبد الستار وغيرهم الكثيرون.
كما ناقش أعمالي إذاعيًا وتليفزيونيًا د. مدحت الجيار وعبد العال الحمامصي ومحمد جبريل وعادل الحيني ود. عزت جاد ود. صابر عبد الدايم.
* * *
لقد ظلت القرية ـ الناس والأرض ـ هي مصدر إلهامي الأول في كل ما كتبت، قد أبتعد عنها قليلا، لكنني سرعان ما أعود إليها، مؤمنًا تمامًا بأن كل المدن في العالم تتشابه، أما القرى هي التي تمثل خصوصية الشعب، الناس في مصر يسألونك عن قريتك قبل أن يسألونك عن اسمك، وأقول لأصدقائي إذا عرفتم قريتي فإنكم حتمًا ستعرفونني، ولقد ظلَّت مصر تمثل في خاطري وإبداعي قرية كبرى بكل ما تمثله من قيم وعادات وتقاليد ومنظومة حياة.. لقد اطلعت تقريبًا علي كل ما كتب من أدب قصصي عن القرية المصرية، طه حسين والحكيم ويحيى حقي ويوسف إدريس والشرقاوي ومحمد عبد الحليم عبد الله وسعد مكاوي وغيرهم.. مرورًا بجيل الستينيات عبد الحكيم قاسم والقعيد وخيري شلبي وغيرهم من الأجيال الجديدة التي ما زالت تواصل العطاء.
وكثيرًا ما أجد متعة خاصة عندما أقرأ عملاً يتناول القرية بشكل أو بآخر، وأعتقد أن القرية معين لا ينضب لكل من أراد أن يكتب عن عالمها الثري، كما أجزم أن القرية لا تبوح بكل أسرارها إلاَّ لأبنائها الأقحاح، بعض أبناء المدن يتعرضون للقرى في إبداعهم، فتأتي كتاباتهم سياحية عابرة تفتقد كثيرًا من الروح والمعنى.
* * *
كان وما زال لي تجربة ثرية مع نوادي الأدب بقصور الثقافة بالشرقية، يكفي أن تلتقي بأناس في مدينتك الصغيرة يهمهم الشأن الأدبي الذي تمنحه جل حياتك عن طيب خاطر، فنوادي الأدب ليست كما يصورها البعض جنَّة، كما إنها لم تكن أيضًا جحيمًا، لكنها كـأي نشاط إنساني تتأثر سلبًا أو إيجابًا بروادها الذين يترددون عليها.. ودائما ما كنت أقول لأي أديب جديد يطرق باب النادي: اعتبر النادي رافدًا واحدًا من روافد كثيرة عليك أن تلجأ إليها.
كان وما زال لي تجربة في التعامل مع شبكة النت والفضاء الالكتروني، إنها قد تأخذك من نفسك بالساعات، وتمكنك من أن ترسل إنتاجك لجهات الدنيا الأربع في ثوان معدودة، وأن تنشر إنتاجك بنفسك علي المواقع الأدبية، وتتلقى ردود القراء عليها في تفاعل حي، ويمكنك في ذات الوقت من أن تطالع إنتاجًا أدبيًا غزيرًا بالمواقع المختلفة، بل وتنقل كتبًا ضخمة في دقائق معدودة إلي حاسوبك، ولا أظن كما يعتقد البعض أن النشر الالكتروني سوف يقضي علي النشر الورقي، لكنهما حتمًا سيمضيان سويًا، وإن كنت أعتز بمكتبتي الورقية فإنني أيضًا أعتز بمكتبتي الالكترونية.
* * *
أشارك يوسف إدريس رأيه بأن لدينا أدب عظيم، لكن حظه قليل بالنسبة للآداب الأخرى، خاصة أدب أمريكا اللاتينية ذائع الصيت، هم يكتبون بالأسبانية إحدى اللغات الأوروبية، وليست لديهم مشاكل سياسية عميقة مع الغرب، والتابوهات التي تعيق تدفق القلم قليلة، عكس ما هو حاصل عندنا.. انظر لصورة العرب الآن في أوروبا لتعرف أنهم صاروا يمثلون وجوها مختلفة للإرهاب والتخلف والتزمت والديكتاتورية ومحاربة حرية الإبداع وغيرها.
نصيب بلادنا في مجال الإبداع ليس في حاجة لتأكيد عبر الحضارات التي مرَّت علينا، وهذه الجذور الحضارية تدعونا للتمسك بهويتنا وخصوصيتنا القومية والثقافية في مواجهة الآخر، دون الوقوع في براثن النرجسية التي تقود للتطرف، أو النظر للآخر علي أنه الأقوى والأخطر فنسقط في براثن الخوف والدونية.. تدعونا لاحترام كل إبداع أو فكر إنساني.. تدعونا أن نأخذ ونعطي ونتلاقح.. أن نثمن حرية التعبير والاعتقاد والرأي والديموقراطية.. تدعونا لاحترام قيمة الإنسان في كل مكان أو زمان.
* * *
تؤرقني أحيانا أسئلة، أحاول أن أغرقها رغم أنفها في بئر النسيان:
ما جدوى الأدب؟ ما تأثير ما نكتب؟ لمن نكتب ومن يقرأنا بحق؟.
أتطلع لعدد ما يُطبع من كل كتاب أدبي وأتحسَّر، وأقارنه بما يُطبع هناك علي الضفة الأخرى!
حيث يلقى الاحترام والتقدير.. رغم أن أجدادنا الفراعنة هم أول من علموا أبناءهم أن حب الكتاب كحب الأم، لماذا يتشابه حال الكِتاب والكتَّاب في كل دول العرب، كأننا أوان مستطرقة تصب في بعضها البعض فتتساوى عند كل الأطراف؟ كيف يكتب الكاتب العربي وهو يرى ما يحدث حوله في فلسطين والعراق واليمن والسودان وغيرها من بلدان العرب الممتدة من (المحيط الهادر إلي الخليج الثائر) كما تقول الأغنية القديمة؟.
* * *
قيل لي أن أبي أسماني "عبد الله" علي اسم الجد  ، كما إن
rالأكبر للعائلة، وأنه أضاف "محمد" ليكون الاسم مركبا كاسم الرسول محمد  اسم والدي (محمد الهادي) مركبًا، أما الجد (إبراهيم أبو صالح) هو أخر عمدة من سلسلة عمد العائلة، قبل أن تقيم الحكومة نقطة للشرطة بالقرية، رحل جدّي عن الدنيا قبل مولدي بخمس سنوات، لم أر سوى صورته بجلبابه الكشميري جالسًا بشموخ عمد الزمن القديم ويده اليمنى تعتمد عقفة عصاه، ينظر بثبات للكاميرا ويزر عينه اليسرى مثلي، سمعت عن أيام العز هذه ولم أعشها، قيل لي أنه كان يعشق الحياة والنساء، وبدد ثروته من الأرض الزراعية قبل رحيله.
وقيل لي أيضاً أن أحد أجدادي "صالح" ـ والذي ينتهي به اسمي ـ هاجر من الشرقية مع أخيه الأكبر "زياد" إلي الغربية، وأفلحا الأرض هناك حيث أقاما، فكانت قرية عائلتي "محلة زياد" (واحدة من أكبر قرى سمنود بالغربية)، وأن الأسرة ظلت تتوارث العمودية، وأن الجد صالح منح لقب البهوية من الملك تقديرًا لجهوده في مساعدة الأمن وتعقب الأشقياء، لكن الأسرة لم تخل من الأشقياء، فقد دوخ أحد أبناء عمومة أبي واسمه أبو سمرة شرطة عبد الناصر، وأبي الذي كان يحمله ثلاثون خفيرًا وهو طفل علي سبيل التدليل لأنه ابن عمدتهم لم يكمل تعليمه، فخيروه بعد أن اشتد عوده بكارت توصية من النحاس باشا للعمل بالري أو السكك الحديدية، فاختار جدِّي له الأولى، وما لبث أبي أن هاجر في دورة عكسية مع قنوات الري للشرقية ليتزوج منها، وتكون جزيرة مطاوع محطته الأخيرة.
وقيل لي أن عائلة النحاس باشا تمت لعائلتنا بصلة، وزينب الوكيل كانت تحرص كل عام علي إهداء جدِّي هدية من الملبوسات الصوفية المعتبرة، وأن عائلتي كلها كانت وفدية قلبًا وقالبًا في الماضي إلي أن جاءت الثورة، لقد رأيت أبي معجبًا بعبد الناصر إعجابًا عظيمًا، ربما لكونه أحد عماله الفقراء الذين جنوا كثيرًا من المكاسب في عهده، وكان ينتظر خطاباته ويحرص علي سماعها في المناسبات القومية.
* * *
في الماضي، كنت كلما شعرت بالهم أو التوتر أهرب إلي الجزيرة، هناك ألتقي بأصدقاء الصبا، وأستعيد نفسي الضائعة من توهتها، وأغسل روحي القلقة بالأمان والطمأنينة.
لكنني في السنوات الأخيرة تراجعتْ مرات رجوعي إليها.
لقد تغيرت الجزيرة كثيرًا، لقد تبدلتْ، تلطَّخ وجهها الصبوح البريء الذي أعرفه بالأصباغ. عندما أشد الرحال إليها، وأركب نفس العربات القديمة، لا أعرف الوجوه التي حولي، رغم أنهم ناسي وأهل قريتي دون شك.. وهناك، عندما أمضي في شوارعها التي ازدحمت بالناس، لا تلقاني بنفس الحميمية، فأتوه وأنا خائف منها وعليها، وأحسُّ إحساسًا غريبًا إنها نسيتني، وأنها تنكرني عن عمد، وإنها تغمز لي بالعين والحاجب وهي تدير وجهها صوب البعــــيد.
تفر الدموع من عينيَّ، تسيل علي وجنتيَّ، وأبحثُ عن كفٍ حنونة ككف أمي، تكفكف دموعي.. فلا أجـــــــــد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فاقوس في 12نوفمبر2009م.